الاثنين، مايو 24، 2010

* زيارة الى مملكة النحو


@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
تخيلت يوما والخيال دأبي، أنني أخذت في المسير عاقدا العزم والنية لزيارة المملكة النحوية، ولكم كانت نفسي لبلوغ ذلك المكان تواقة، ولكن علمت أن ذلك يحتاج مني الى جهد وطاقة، فشمرت عن ساعد الجد، وحملت راية الحزم والكد، فلما اقتربت من ذلك المكان، أحسست أن كل شيء حولي تغير، فانشغل بالي وتحير...بدأت أتقدم بخطوات مترددة، وأمشي خائفا أترقب، لعلني أجد مؤنسا أو مرشدا يدلني، فإذا بي أرمق رجلا محدودب الظهر، فهرولت إليه وبادرته بالتحية، فاستقبلني ببشاشة ورحابة صدر، فسرني ذلك ونزعت عن نفسي ثياب التردد والخوف، وسألته قائلا من أنت؟ فأجابني وهو يتسم، أنا باء الاستعانة، فهل عندك من طلب فألبيه لك، قلت له بلهف: نعم يا سيدي، هل لك أن تدلني على باب مملكة النحو، قال نعم بكل فرح وسرور، فأنا واحد من أهلها، فأرشدني وشكرت له صنيعه، وانطلقت مسرعا ونفسي كلها أمل لأصل الى المملكة.
وما إن وقفت على بابها حتى أخذتني قشعريرة من منظرها الباهر، وعمرانها الساحر، وجوها النقي، ونسيمها البهي، فبدأت أمتع فيها نظري، التفت جهة يميني ويساري، وكان أول ما وقعت عليه عيناي قوم يجرون بالجرارات، دائبون على العمل دون كلل ولا ملل، فعرفت أنهم حروف الجر...
ثم واصلت الطريق، الى أن وقفت على قوم معوزين، لاحول لهم ولا طول، ولا يحركون أجسادهم بفعل ولا قول، وفجأة ... هبوا هبة رجل واحد، فاستغربت لذلك، فقيل لي إنها الموصولات، كانت في أول الأمر تفتقر الى الصلة، فلما وجدتها استعادت عافيتها.
وبينما أنا مستمر في سيري، إذ صرح أحدهم في وجهي، ألم يمر الخبر هنا؟ قفلت مستغربا: ومن أنت؟ قال أنا المبتدأ المقرون بلولا، فابتسمت وقلت له: إنك لن تستطيع الى صاحبك سبيلا، فقال: لن أمكنك من تيئيسي أبدا، سأبحث عنه مهما كلفني الأمر، ثم نظر إلي نظرة الشاك وولاني قَداله وانصرف وهو يقول: قرينُ سوء قبحه الله أين سأجده، فضحكت من تصرفه ثم واصلت طريقي، وما هي إلا خطوات حتى لفت انتباهي أربعة من الأشخاص مقيدون، قد لزموا مكانا واحدا لا يتحركون، وبينهم شخص يصول بينهم بحرية وطلاقة ويجول، فتقدمت الى أحدهم قائلا: من أنتم؟ فقال: نحن المفاعيل، قد قيدتنا حروف الجر بالسلاسل، قلت ومن ذلك المغرور الذي يتحرك بينكم ويدور، فقال: إنه المفعول المطلق، ليس له قيد به يوثق، وهذا هو ديدنه الدائم، فهممت أن أزجره لولا خوفي من وقوع مالا يلائم، فتركتهم مغضبا وانصرفت.
وهناك ... وسط المدينة، تبرز مدرستان عظيمتان في شكل معماري رائع وفنان، يسحر اللب والعين، فذكرني شكلهما بمبنى مجلس الأمن، فما ارتبت أنهما مدرستا الكوفة والبصرة، اللتان إعتنتا بهذه المملكة جيدا حتى صارت ذات صيت وشهرة، وبلغت مبلغا كبيرا في القوة والأسرة.
ويفصل المدرستين شارع كبير، جميل المنظر والحلة، يسمى شارع الألفية، وعلى جنباته محلات مختلفة الإشكال، متنوعة الخدمات، وعلى كل واحد منها لائحة كتب عليها اسم المحل بخط عريض، وهي لا تكاد تغلق أبواها لكثرة الوافدين ما بين والج وخارج، فهذه جماعة تكتظ حول محل اسم الإشارة، وأخرى حول محل جمع التكسير، وأخرى حول محل التصغير، وهكذا دون انقطاع.
وفي تلك اللحظات وقعت عيني على رجل جالس وسط الحديقة العمومية مطئطئا رأسه كأنه أصيب ببلية، فدنوت منه وسمعته ينشد بصوت حزين:
ولكن هما بين جنبي هاجه
علي ذووا القربى عفا الله عنهم
هموا لثموا عرضي لغير جريرة
سوى أنهم مني وأني منهم
فقاطعته قائلا، بالله عليك من أنت وما ذا بك؟ فرفع رأسه وقال يا هذا، أتسخر مني ؟ وهل هناك أحد في هذه المملكة لا يعرفني؟ قلت له أنا غريب يا سيدي فأخبرني أرجوك... ثم نطق بصعوبة ودموعه تسبق كلماته: أنا إسمي زيد وأعيش في هذا المكان، في ذل وهوان، لقد أوجعوني ضربا، وأسمعوني شتما وسبا، ثم أجهش بالبكاء مثل المرَزَّأة الثكلى،فأشفقت لحاله، وتمزق قلبي ألما لمنظره، وقلت له اصبر فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده.
ثم جلست لأستريح قليلا واستجمع قواي، فأخذتني سنة من النوم، حتى أقض مضجعي صراخ ولجب، ينبئ عن توقد نار الغضب، فقمت وجلا، فإذا بي أجد حشدا من الناس مجتمعين، فهرولت إليهم مسرعا، أسأل عن الخبر، فقيل لي: لقد وقع تنازع بين عاملين على معمول، ولم يستطيعا أن يتوصلا الى الحكم المأمول، ثم جاءت الشرطة لتحسم الإشكال، قبل أن يحتدم القتال، فتوجهت بهم نحو المحكمة الموجودة قرب المدرستين، لتتخذ الإجراءات اللازمة، وتحكم في القضية.
ومر وقت وليس بالطويل، وإذا بموكب خاص، متكون من أربعة أشخاص، لهم هيئة أرباب الصدور، ويمشون في كبر وغرور، فسألت أحد المارين، من أولئك؟ فقال لي: إنها العمد الأربعة، التي لا يستغني عنها أحد هنا في الضيق والسعة، فتقدم أحدهم في تلك اللحظات ينشد بفخر واعتزاز:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل
وتقدم الآخر ينشد وهو رافع عقيرته:
ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وتقدم الآخر يجر ثياب الكبر والغرور قائلا:
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا 
وأكرم من فوق التراب ولا فخر
وبعد مرور هذا الجو المهيب، غادرت المملكة كما يغادر الحبيب، بعد أن قضيت فيها أوقاتا رائعة وجميلة، واشتد شوقي وحنيني لأصدقائي وأحبابي، وعدت والعود أحمد.
وفجأة... استفقت من ذلك العالم، عالم الخيال، لأجد نفسي في واقعي ببين دفاتري وكتبي، فبادرت بشد وثاق هذه الرحلة، قبل أن تمحوها عواصف النسيان، وهاهي قد عرضت عليكم، فما وجدتم من خير فإمساك بمعروف، وما وجدتم من غيره فتسريح إحسان.
كتبه عبيد ربه الحسين أبيكا الطالب المدرسة العتيقة بإكضي